فصل: باب ما جاء في القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

432 ذكر فيه مالك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏)‏ ورواه عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله سلمان الأغر عن أبي هريرة وهو حديث رواه عن أبي هريرة جماعة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة قد ذكرت كثيرا منها في التمهيد وأجمعوا على صحته واختلفوا في تأويله فكان عبد الله بن نافع الزبيري صاحب مالك في ما روى يحيى بن يحيى عنه أنه سأله عن معنى هذا الحديث فقال معناه أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة وهذا التأويل على بعده ومخالفة أكثر أهل العلم له فيه لا حظ له في اللسان العربي لأنه لا يقوم في اللسان إلا بقرينة وبيان ولا بيان ولا دليل لمن تأول تأويل بن نافع يشهد له وأهل العربية يقولون إذا قلت اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويا لليمن وفاضلا ومفضولا فإذا كان مساويا فقد علم مقدار فضله وإذا كان فاضلا أو مفضولا فمطلق في الفضل لا يعلم كم مقدار المفاضلة بينهما إلا بقرينة ودليل على عدة درجات فإن أيده على تلك أو ناقضة عنه فيحتاج إلى الإتيان بها قال أبو عمر قد علمنا أنه لم يحمل بن نافع على ما تأوله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا إلا ما كان يذهب إليه هو وشيخه مالك من تفضيل المدينة على مكة وتفضيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الحرام وتفضيل المدينة على مكة أو مكة على المدينة مسألة قد اختلف فيها أهل العلم وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي قال اختلف الناس في تفضيل مكة على المدينة فقال مالك وكثير من المدنيين المدينة أفضل من مكة‏.‏

وقال الشافعي مكة خير البقاع وهو قول عطاء بن أبي رباح والمكيين وأهل الكوفة أجمعين قال واختلف أهل البصرة في ذلك فطائفة قالوا مكة وطائفة قالوا المدينة وقال عامة أهل الأثر الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة ومن الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجد الرسول أفضل من سائر المساجد بألف صلاة قد أوضحنا المعنى في تأويل عبد الله بن نافع وذكرنا ما نزعت إليه الفرق من الآثار في هذه المسألة إذ لا مدخل فيها للنظر إنما تعرف الفضائل في مثل ذلك بالتوقيف لا بالاستنباط والاجتهاد وأتينا بما روينا في ذلك مبسوطا في التمهيد والحمد لله وأحسن حديث روي في ذلك ما رواه حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة وقد ذكرنا إسناده من طرق في التمهيد وقال بن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول حبيب المعلم ثقة وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول حبيب المعلم ثقة وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل ما أصح حديثه وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال بصري ثقة قال أبو عمر سائر الإسناد لا يحتاج إلى القول فيه وقد روي من حديث بن عمر وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث بن الزبير هذا سواء وقد ذكرت الطرق بذلك في التمهيد وذكر البزار قال حدثنا إبراهيم بن جميل قال حدثنا محمد بن يزيد بن شداد قال حدثنا سعيد بن سالم القداح قال حدثنا سعيد بن بشر عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة وفي مسجدي ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمس مائة صلاة قال أبو بكر البزار هذا حديث حسن حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا حامد بن يحيى وأحمد بن سلمة بن الضحاك قالا حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام قال سفيان فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن مائة ألف صلاة في غيره قال بن وضاح حدثنا أحمد بن عمر بن السرح قال سمعت بن وهب يقول ما رأيت أعلم بتفسير هذا الحديث من سفيان بن عيينة قال أبو عمر من جعل قول بن عيينة حجة في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم أوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة أنه مالك بن أنس وقوله أيضا كانوا يرونه مالك بن أنس وقوله يلزمه أن يجعل قوله فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تفضله بمائة صلاة حجة أيضا في هذا وهذا شيء لا ينفك منه منصف وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله أنهم كانوا يفضلون مكة ومسجدها وإذا لم يكن بد من التقليد فهم أولى أن يقلدوا من غيرهم الذين جاؤوا بعدهم وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجد المدينة قال معمر وقد سمعت أيوب يحدث عن أبي العالية عن عبد الله بن الزبير مثل قول قتادة وقال عبد الله بن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن بن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أصحاب مالك قد اختلفوا في ذلك وبالله التوفيق‏.‏

433- وأما قوله صلى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فذكره مالك في هذا الباب من طريقين أحدهما خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري على الشك‏.‏

434- والثاني عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني وفي حديث خبيب زيادة ومنبري على حوضي واختلف العلماء في تأويل قوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فقال منهم قائلون ترفع تلك البقعة يوم القيامة فتجعل روضة من الجنة وقال آخرون هذا على المجاز قال أبو عمر يعنون أنه لما كان جلوسه وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هنالك شبه ذلك الموضع بالروضة لكريم ما يجتنى فيها وأضافها إلى الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام الجنة تحت ظلال السيوف يعني أنه عمل يدخل المسلم الجنة وكما جاء في الحديث الأم باب من أبواب الجنة يريد أن برها يقود المسلم إلى الجنة ومثل هذا معلوم من لسان العرب وقد استدلت طائفة من أصحابنا بهذا الحديث على أن المدينة أفضل من مكة وركبوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم موضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها وخالفهم آخرون فقالوا لا يدخل هذا الحديث في تفضيل المدينة وإنما ورد تزهيدا في الدنيا وترغيبا في الآخرة وإعلاما بأن اليسير من الجنة خير من الدنيا وما فيها ومعلوم أن موضع ربع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها والذي فيها والذي أقول به في هذا الباب أن البقاع أرض الله وخلقه فلا يجوز أن يفضل منها شيء على شيء إلا بتوقيف من يجب التسليم له بنقل لا مدفع فيه ولا تأويل وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ما يغني عن قول كل قائل ويقطع الخلاف فيها وذلك ما رواه يونس بن يزيد وعقيل بن خالد وعبد الرحمن بن مسافر وشعيب بن أبي حمزة وصالح بن كيسان كلهم عن بن شهاب عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة وهو يقول والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة فوهم فيه إذ جعله لأبي سلمة عن أبي هريرة وخالفه أصحاب بن شهاب فجعلوا الحديث لأبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء وقد قال محمد بن يحيى الذهلي يمكن أن يكون الحديث لأبي سلمة عن أبي هريرة وبن عدي بن الحمراء معا قال أبو عمر هو حديث حسن صحيح ثابت عند جماعة أهل العلم بالحديث ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح شيء يعارضه وقد روى محمد بن الحسن بن زبالة وهو متروك الحديث مجمع على ترك الاحتجاج بحديثه وقد انفرد بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حين خروجه من مكة اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فسكني أحب البقاع إليك وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث ولا يختلفون في نكارته ووضعه وقد ذكر بن وهب في جامعه قال حدثنا مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند قال يا رب هذه الأرض أحب إليك أن تعبد فيها قال بل مكة فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت فيعبدون الله تعالى فقالوا مرحبا يا آدم يا أبا البشر إنا ننتظرك ها هنا منذ ألفي سنة وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد بالآثار والأسانيد وحسبك بمكة أن فيها بيت الله الذي رضي لعباده على الحط لأوزارهم وغفران ذنوبهم أن يقصدوه مرة واحدة في أعمارهم ولم يقبل من أحد صلاة إلا باستقبال جهته بصلاته إذا كان عالما بالجهة قادرا على التوجه إليها فهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتا والآثار عن السلف في فضائل مكة كثيرة جدا وبالله التوفيق‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ومنبري على حوضي فزعم بعض أهل الكلام في معاني الآثار أنه أراد والله أعلم أن له منبرا يوم القيامة على حوضه صلى الله عليه وسلم كأنه قال ولي أيضا على حوضي أدعو الناس إلى الحوض عليه لأن منبره ذلك على حوضه وقال آخرون يحتمل أن يكون الله تعالى يعيد ذلك المنبر بعينه فيكون يومئذ على حوضه والقول الأول أولى والله أعلم وقد ذكرنا الآثار المتواترة في الحوض في كتاب التمهيد والحمد لله‏.‏

باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد

435- ذكر فيه مالك أنه بلغه عن عبد الله بن عمر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وهذا الحديث قد رواه عن بن عمر جماعة منهم سالم ونافع وحبيب بن أبي ثابت ومجاهد وبلال بن عبد الله بن عمرو وقد ذكرنا الطرق بذلك في التمهيد وممن رواه عن نافع عن بن عمر أيوب وعبيد الله بن عمر ومن رواة هذا الحديث من يقول فيه إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ومنهم من يقول فيه ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل فخص الليل بالإذن في ذلك دون النهار وقد أوردنا الأحاديث في ذلك باختلاف ألفاظ الناقلين لها في التمهيد وفي هذا الحديث من الفقه جواز خروج المرأة إلى المسجد لشهود الجماعة ومن خص الليل لصلاة العشاء بخروجهن قال إنها زيادة حافظ يجب أن تمتثل وفي معنى الإذن لها في شهود العشاء وغيرها دليل على أن كل مباح وفضل حكمه بحكمه في ذلك وفي خروجهم إليه مثل زيارة الآباء والأمهات وذوي المحارم من القرابات وما كان مثله لأن الخروج إلى المسجد ليس بواجب على النساء لأنه قد جاء أن صلاتهن في بيوتهن خير لهن فما ندبن إليه من صلات الرحم أحرى بذلك وأولى فإذا لم يكن للرجل أن يمنع امرأته المسجد إذا استأذنته في الخروج إليه كان أوجب عليه وأوكد أن لا يمنعها من خروجها إلى الحج في جماعة النساء وإن لم يكن لها ذو محرم وسنبين هذه المسألة عند قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها ونذكر اختلاف الفقهاء في المحرم هل هو من السبيل إلى الحج أم لا هناك إن شاء الله‏.‏

436- وقد ذكر مالك في هذا الباب أيضا أنه بلغه عن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شهدت إحداكن صلاة العشاء فلا تمسن طيبا وهذا الحديث حديث مشهور مسند صحيح رواه بكير بن الأشج وبن شهاب عن بسر بن سعيد عن زينب الثقفية امرأة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا ولفظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولتخرجن تفلات د وفي رواية أخرى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة تبخرت فلا تشهد معنا العشاء الآخرة وقد ذكرنا الأسانيد لذلك كله في التمهيد وأوضحنا هناك معاني هذه الألفاظ التي لم يروها مالك رحمه الله في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تمس طيبا وقوله في غير هذا الحديث ولتخرجن تفلات والمتفلة المتغيرة الريح بغير الطيب وقد شرحنا معنى هذه اللفظة بشواهدها من الشعر في التمهيد وفيه دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتطيب في غير بيتها بطيب على حال من الأحوال وإذا تطيبت في بيتها فلا تخرج ولما كان الأصل ألا تخرج امرأة إلا تفلة وكان الوقت المعروف لتطيب النساء للرجال إنما هو بالليل لأن الليل يجمع بين الرجل وامرأته لإقباله من مصرفه إلى بيته ليسكن إلى أهله في ليله فتطيب إمرأته قيل لهن من تطيب منكن قبل شهود العشاء فلا تشهد العشاء‏.‏

437- وذكر في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن عائكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب أنها كانت تستأذن عمر بن الخطاب إلى المسجد فيسكت فتقول والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يمنعها وقد ذكرنا في التمهيد حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال كانت امرأة تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار فقالت وما يمنعه أن ينهاني قالوا يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وهذا يفسر حديث مالك ويبين الوجه الذي لم يمنعها منه عمر من أجله مع كراهته لخروجها وعاتكة هذه كانت تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها يوم الطائف ثم تزوجها زيد بن الخطاب فقتل عنها في اليمامة ثم تزوجها عمر فقتل رضي الله عنه ثم تزوجها الزبير وعرض له معها خبر طريف في خروجها إلى المسجد وقد ذكرنا خبرها مستوعبا في بابها في كتاب النساء من كتاب الصحابة وفي هذا الباب أيضا لمالك 438 عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعه نساء بني إسرائيل قال يحيى بن سعيد فقلت لعمرة أو منع نساء بني إسرائيل المساجد قالت نعم وفي هذا الحديث بيان شهود النساء المساجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألا ترى إلى حديث عائشة أيضا إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس وهذا مما لا خلاف فيه وفيه أن أحوال الناس تغيرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء ورجالا وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفناه حتى تغيرت قلوبنا ولا بأس عند أهل العلم بشهود المتجالات من النساء الجماعات والجمعات من الصلوات ويكرهون ذلك للشواب وقد روى حبيب بن أبي ثابت عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن وروت عائشة وبن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها خير لها من صلاتها وراء ذلك هذا لفظ حديث عائشة وحديث بن مسعود وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في دارها وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرأة في مخدعها خير وأعظم لأجرها من صلاتها في بيتها ولأن تصلي في بيتها أعظم لأجرها من أن تصلي في دارها ولأن تصلي في مسجد قومها أعظم لأجرها من أن تصلي في مسجد الجماعة ولأن تصلي في مسجد الجماعة أعظم لأجرها من الخروج يوم الخروج وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد‏.‏

وأما أقاويل الفقهاء في هذه الأحاديث في هذا الباب فقال مالك لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد فإذا كان الاستسقاء والعيد فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة متجالة هذه رواية بن القاسم عنه وروى عنه أشهب قال تخرج المرأة المتجالة إلى المسجد ولا تكثر التردد وتخرج الشابة مرة بعد مرة وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها وقال الثوري ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا قال الثوري قال عبد الله بن مسعود المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها فإذا خرجت استشرقها الشيطان وقال الثوري أكره للنساء الخروج إلى العيدين وقال بن المبارك أكره اليوم للنساء الخروج في العيدين فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها وذكر محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد فأما اليوم فإني أكرهه وأكره لهن شهود الجمعة والصلاة المكتوبة بالجماعة وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر فأما غير ذلك فلا وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال خروج النساء في العيدين حسن ولم يكن يرى خروجهن في غير ذلك مكتوبة ولغيرها وقال أبو يوسف لا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها وأكره ذلك للشابة وقد زدنا هذا الباب بيانا بالآثار في التمهيد والحمد لله حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا المعلى بن منصور قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي اليمان عن شداد بن عمرو بن حماس عن أبيه عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد واختلط النساء بالرجال فقال لا تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق قال فلقد رأيت المرأة تلصق بالجدار فيتعلق الشيء من الجدار بثوبها فيشقه من شدة لصوقه به حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار قال حدثنا سوار بن مصعب عن عطية العوفي عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس للنساء نصيب في الخروج وليس لهن نصيب من الطريق إلا في جوانب الطريق والله الموفق للصواب‏.‏

كتاب القرآن

باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن

439- ذكر فيه عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر قد بين مالك معنى هذا الحديث عنده ومذهبه فيه وفي قول الله تعالى ‏(‏لا يمسه إلا المطهرون‏)‏ ‏[‏الواقعة 79‏]‏‏.‏

بيانا حسنا في الموطأ وهذا الحديث لم يتجاوز به مالك عبد الله بن أبي بكر ورواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا على طهر وذكره بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر ورواه سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات ألا يمس القرآن إلا طاهر وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا الطاهر وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد وهؤلاء أئمة الرأي والحديث في أعصارهم وروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء وهؤلاء من أئمة التابعين بالمدينة ومكة واليمن والكوفة والبصرة قال إسحاق بن راهويه لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ وليس ذلك لقول الله عز وجل ‏(‏لا يمسه إلا المطهرون‏)‏ ‏[‏الواقعة 79‏]‏‏.‏

ولكن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر وهذا كقول مالك ومعنى ما في الموطأ‏.‏

وقال الشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد لا يمس المصحف الجنب ولا الحائض ولا غير المتوضئ‏.‏

وقال مالك لا يحمله بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر قال ولا بأس أن يحمله في التابوت والخرج والغرارة من ليس على وضوء قال أبو عمر يريد أن يكون المصحف في وعاء قد جمع أشياء منها المصحف وحده في أي شيء كان وقصد إليه حامله وهو غير طاهر لم يجز وقد كره جماعة من علماء التابعين مس الدراهم التي فيها ذكر الله على غير وضوء منهم القاسم بن محمد والشعبي وعطاء فهؤلاء لا شك أشد كراهة أن يمس المصحف غير المتوضئ وقد روي عن عطاء أنه لا بأس أن تحمل الحائض المصحف بعلاقته‏.‏

وأما الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان فلم يختلف عنهما في إجازة حمل المصحف بعلاقته لمن ليس على طهارة وقولهما عندي شذوذ عن الجمهور وما أعلم أحدا تابعهما عليه إلا داود بن علي ومن تابعه قال داود لا بأس أن يمس المصحف والدنانير والدراهم التي فيها اسم الله الجنب والحائض قال داود ومعنى قوله عز وجل ‏(‏لا يمسه إلا المطهرون‏)‏ ‏[‏الواقعة 79‏]‏‏.‏

هم الملائكة ودفع حديث عمرو بن حزم في أن لا يمس القرآن إلا طاهر بأنه مرسل غير متصل وعارضه بقول النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بنجس وقد بينا وجه النقل في حديث عمرو بن حزم وأن الجمهور عليه وهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل ولا تلقي ما لا يصح بقبول وبما عليه الجمهور في ذلك أقول وبالله التوفيق‏.‏

باب الرخصة في قراءة القرآن على غير وضوء

440- مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب كان في قوم وهم يقرؤون القرآن فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن فقال له رجل يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء فقال له عمر من أفتاك بهذا أمسيلمة وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح والسنن بذلك أيضا ثابتة فمنها حديث مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى بن عباس عن بن عباس في حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وفيه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فجلس ومسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ مها وذكر تمام الحديث وهذا نص في قراءة القرآن طاهرا على غير وضوء وحديث علي بن أبي طالب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن تلاوة القرآن شيء إلا الجنابة وقد شذ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب وقال في حديث علي إنه ليس قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا اعتراض مردود عند جماعة أهل العلم بالآثار والفقه لأن عليا لم يقله عنه حتى علمه منه ويلزمه على هذا أن يرد قول بن عمر قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن وقول عمر رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ومثله قول الصاحب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا ونحو هذا ومثل هذا كثير حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن مسعر وشعبة وبن أبي ليلى عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه عن تلاوة القرآن إلا أن يكون جنبا ورواه الأعمش عن عمرو بن مرة مثله وقال عبد الله بن مالك الغافقي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كنت جنبا لم أصل ولم أقرأ حتى أغتسل ومعلوم أنه لو جاز له أن يقرأ لصلى‏.‏

وأما الرجل المخاطب لعمر القائل له أتقرأ ولست على وضوء فهو رجل من بني حنيفة ممن كان آمن بمسيملة ثم تاب وآمن بالله ورسوله ويقال إنه الذي قتل زيد بن الخطاب باليمامة فكان عمر لذلك يستثقله ويبغضه وقد قال قوم إنه أبو مريم الحنفي وأبى ذلك آخرون لأن أبا مريم قد ولاه عمر بعض ولاياته والله أعلم‏.‏

وأما مسيلمة الحنفي كذاب اليمامة الذي ادعى النبوة فاسمه بن اليمامة بن حبيب يكنى أبا هارون ومسيلمة لقب‏.‏

باب ما جاء في تحزيب القرآن

441- ذكر فيه عن داود بن الحصين عن الأعرج عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أن عمر بن الخطاب قال من فاته حزبه من الليل فقرأه حين تزول الشمس إلى صلاة الظهر فإنه لم يفته أو كأنه أدركه هكذا هذا الحديث في الموطأ عن داود بن الحصين وهو عندهم وهم من داود والله أعلم لأن المحفوظ من حديث بن شهاب عن السائب بن يزيد وعبيد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب قال من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ومن أصحاب بن شهاب من يرويه عنه بإسناده عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عند أهل العلم أولى بالصواب من حديث داود من حصين حين جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر لأن ضيق ذلك الوقت لا يدرك فيه المرء حزبه من الليل ورب رجل حزبه نصف وثلث وربع نحو ذلك وقد كان عثمان وتميم الداري وعلقمة وغيرهم يقرؤون القرآن كله في ركعة وكان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين وأكثر في ليلة وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا عن العلماء في كتاب البيان عن تلاوة القرآن والحمد لله والذي في حديث بن شهاب من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر أوسع وقتا وبن شهاب أتقن حفظا وأثبت نقلا وفي الحديث فضل بيان صلاة الليل على صلاة النهار وقيام الليل من أفضل نوافل البر وأعمال الخير وكان السلف يقومون الليل بالقرآن ويندبون إليه والآثار بذلك كثيرة عنهم وفي فضل التهجد وأخبار المتهجدين كتب وأبواب للمصنفين هي أشهر عند العلماء وأكثر من أن تجمع ها هنا وحسبك بقول الله عز وجل ‏(‏يأيها المزمل قم اليل إلا قليلا كل كل كل‏)‏ ‏[‏المزمل 1‏]‏‏.‏

2 أمر فيها بقيام الليل وترتيل القرآن وهذه الآية إن كانت منسوخة بالصلوات الخمس وبقوله جل وعز ‏(‏علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن‏)‏ ‏[‏المزمل 20‏]‏‏.‏

فإن التهجد به مندوب إليه محمود فاعله عليه قالت عائشة ‏(‏رضي الله عنها‏)‏ كان بين نزول أول سورة المزمل وبين آخرها حول كامل قام فيه المسلمون حتى شق عليهم فأنزل الله تعالى التخفيف عنهم في آخر السورة وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏(‏ومن اليل فتهجد به نافلة لك‏)‏ ‏[‏الإسراء 79‏]‏‏.‏

وقد قال بعض التابعين وهو عبيدة السلماني قيام الليل فرض ولو كقدر حلب شاة لقوله عز وجل ‏(‏فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن‏)‏ ‏[‏المزمل 20‏]‏‏.‏

وهذا قول لم يتابع عليه قائله والذي عليه جماعة العلماء أن قيام الليل نافلة وفضيلة‏.‏

442- وذكر مالك في هذا الباب أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلا فقال أخبرني بالذي سمعت من أبيك فقال الرجل أخبرني أبي أنه أتى زيد بن ثابت فقال له كيف ترى في قراءة القرآن في سبع فقال زيد حسن ولأن أقرأه في نصف أو عشر أحب إلي وسلني لم ذاك قال فإني أسألك قال زيد لكي أتدبره وأقف عليه وهذا الحديث رواه بن المبارك عن يحيى بن سعيد أنه أخبره قال سمعت رجلا يحدث عن أبيه أنه سأل زيد بن ثابت عن قراءة القرآن في سبع فقال لأن أقرأه في عشرين أو في نصف شهر أحب إلي من أن أقرأه في سبع واسألني لم ذلك لكي أقف عليه وأتدبر ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد بمثل معناه ورواه النضر بن شميل عن شعبة عن عبد ربه ويحيى بن سعيد عن رجل ثان من أهل المدينة عن أبيه عن زيد بن ثابت بمثل ذلك كلهم قال عشرين أو نصف شهر وكذلك رواه بن وهب وبن بكير وبن القاسم عن مالك وأظن يحيى وهم في قوله أو عشر والله أعلم وتشهد لصحة قول بن ثابت قول الله عز وجل ‏(‏كتب أنزلنه إليك مبرك لدبروا ءايته‏)‏ ‏[‏ص 29‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏ورتل القرآن ترتيلا‏)‏ ‏[‏المزمل 4‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏وقرءانا فرقته لتقرأه على الناس على مكث‏)‏ ‏[‏الإسراء 106‏]‏‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فلم يفقهه رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث‏.‏

وأما أحاديث عبد الله بن عمرو فأكثرها أنه قال له اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك وقد أفردنا لهذا المعنى كتابا أسميناه كتاب البيان عن تلاوة القرآن واستوعبنا فيه القول والآثار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الهذ والترتيل والحدر وأي ذلك أفضل والقول في قراءة القرآن بالألحان ومن كره ذلك ومن أجازه وما روي في صوت داود صلى الله عليه وسلم وما جاء من هذه المعاني فيه شفاء في معناه والحمد لله أخبرنا محمد بن عبد الملك قال أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال حدثنا بن علية عن أيوب عن أبي حمزة قال قلت لابن عباس إني سريع القراءة إني أقرأ القرآن في ثلاث قال لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله أهذه كما تقول حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال قلت لابن عباس أقرأ القرآن في كل ليلة وأكثر ظني اني قلت مرتين فقال لأن أقرأ سورة واحدة أحب إلي فإن كنت لابد فاعلا فاقرأ ما تسمعه أذناك ويفقهه قلبك أخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وأحمد بن محمد قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد المكتب قال سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وقرأ الآخر البقرة وآل عمران فكان ركوعهما وسجودهما واحدا وجلوسهما سواء أيهما أفضل فقال الذي قرأ البقرة ثم قرأ ‏(‏وقرءانا فرقنه لتقرأه على الناس على مكث ونزلنه تنزيلا‏)‏ ‏[‏الإسراء 106‏]‏‏.‏

وذكر سنيد عن وكيع عن بن وهب قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول لأن أقرأ ‏(‏إذا زلزلت‏)‏ و‏(‏القارعة‏)‏ سورتي الزلزلة والقارعة في ليلة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إلي من أن أبيت أهذ القرآن وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرطبي فإن قراءة عشر آيات تتفكر فيها خير من مائة تهذها ومن أراد أن يقف على فضائل الهذ وفضائل الترتيل وأيهما أفضل نظر في كتابنا كتاب البيان عن تلاوة القرآن‏.‏

باب ما جاء في القرآن

443- ذكر فيه عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله ثم قال اقرأ يا هشام فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ فقرأتها فقال هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه وهذا الحديث قد تكلمنا على إسناده وأشبعنا القول في معانيه واجتلبنا ما لعلماء السلف والخلف فيه واستوعبنا ذلك كله في التمهيد ونذكر فيه ها هنا ما فيه دلالة كافية إن شاء الله روى هذا الحديث معمر ويونس وعقيل وشعيب بن أبي حمزة وبن أخي بن شهاب عن عروة عن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ جميعا سمعا عمر بن الخطاب بمعنى حديث مالك إلا أن معمرا قال فيه عن عمر فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان فبان في رواية معمر أن الخلاف بين هشام وعمر كان في حروف من السورة وهذا تفسير لرواية مالك لأن ظاهرها في قوله يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها يقتضي عموم السورة كلها وليس كذلك وقد ظهر الخصوص برواية معمر ومن تابعه في ذلك ومعلوم عند الجميع أن القرآن لا يجوز في حروفه كلها ولا في سورة منه واحدة أن تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه بل لا توجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليلا من كثير مثل ‏(‏ربنا باعد بين أسفارنا‏)‏ ‏[‏سبأ 19‏]‏‏.‏

و‏(‏وعبد الطغوت‏)‏ ‏[‏المائدة 60‏]‏‏.‏

و‏(‏إن البقر تشبه علينا‏)‏ ‏[‏البقرة 70‏]‏‏.‏

و‏(‏بعذاب بئيس‏)‏ ‏[‏الأعراف 165‏]‏‏.‏

ونحو ذلك وهو يسير في جنب غيره من القرآن وقد اختلف العلماء وأهل اللغة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم نزل القرآن على سبعة أحرف اختلافا كثيرا تقصيناه في التمهيد ونورد منه ها هنا عيونها إن شاء الله قال الخليل بن أحمد معنى قوله سبعة أحرف سبع قراءات قال والحرف ها هنا القراءات وقال غيره هي سبعة أنحاء كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف غيره من أنحائه ذهبوا إلى أن الأحرف أنواع وأصناف فمنها زاجر ومنها أمر ومنها حلال ومنها حرام ومنها محكم ومنها متشابه ومنها أمثال وغيره واحتجوا بحديث من حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى ما ذكروا وهو حديث لا يحتج بمثله لضعفه عند أهل العلم بالحديث وقد ذكرته في التمهيد وذكرت العلة فيه وقد اعترض فيه من جهة النظر قوم من أهل العلم منهم أحمد بن أبي عمران وأبو جعفر الطحاوي وغيرهما وقالوا محال أن يكون الحرف كله حراما لا ما سواه وحلالا لا ما سواه وآمرا لا ناهيا وزاجرا لا مبيحا وامتثالا كله وقال آخرون هي سبع لغات مفترقات في القرآن على لغة العرب كلها يمنها ونزارها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها وكان قد أتى جوامع الكلم وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تأويل هذا الحديث قال يكون الحرف منها بلغة قبيلة والثاني بلغة قبيلة أخرى والثالث بلغة قبيلة ثالثة هكذا إلى السبعة قال وقد يكون بعض الأحياء أسعد بها من بعض واحتج بقول عثمان واكتبوه بلغة قريش فإنه أكثر ما نزل بلسانهم وقد روي عن عمر أن القرآن نزل بلغة قريش كقول عثمان ‏(‏رضي الله عنهما‏)‏ حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك عن عمر أنه قال إنما نزل يعني القرآن بلسان قريش وعن بن عباس نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة قيل له وكيف ذلك قال كانت دارهم واحدة قال أبو عبيد يعني أن خزاعة جيران قريش حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا صالح بن نصر بن مالك الخزاعي قال مر بي شعبة بن الحجاج فقال لي يا خزاعي ‏!‏ ألا أحدثك حديثا في قومك حدثنا قتادة عن أبي الأسود الديلي قال نزل القرآن بلغة الكعبين كعب بن عمرو وكعب بن لؤي قال‏.‏

وحدثنا صالح قال حدثنا هشيم قال حدثنا بن أبي عروبة عن قتادة عن بن عباس قال نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة وذلك أن الدار واحدة وقال آخرون هذه اللغات السبع كلها في مضر منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل ومنها لنمر ومنها لضبة ومنها لقيس ومنها لطابخة قالوا فهذه مضر تستوعب سبع لغات وتزيد على ذلك واحتجوا بقول عثمان نزل القرآن بلسان مضر وأنكر آخرون أن تكون لغة مضر كلها في القرآن لأن منها شداد لا يجوز أن يقرأ عليها القرآن مثل كشكشة قيس وعنعنة تميم وقد ذكرناها بالشواهد عليها في التمهيد وروى الأعمش عن أبي صالح عن بن عباس قال أنزل القرآن على سبعة أحرف صار منها في عجز هوازن خمسة قال أبو حاتم عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر بن معاوية قال أبو حاتم خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ربيعة ومضر أخوين قال وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش ثم أدناهم من بطون مضر وقال الكلبي في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف قال خمسة منها لهوازن واثنان لسائر الناس وقال قائلون لا يجوز أن يكون معنى السبعة الأحرف سبع لغات لأن العرب لا ينكر بعضها على بعض لغته لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ولغتهما واحدة ومحال أن تنكر على أحد لغته وكيف تنكر على امرئ لغة قد جبل عليها ومحال أيضا أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا بغير لغته وقالوا إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع وأنظر وأخر وأمهل وذلك بين في قراءة أبي بن كعب ‏(‏انظرونا‏)‏ ‏(‏انظرونا نقتبس من نوركم‏)‏ وأخرونا وأنسونا نقتبس من نوركم ‏[‏الحديد 13‏]‏‏.‏

فهذه كلمات كلها متفق مفهومها مختلف مسموعها وعلى هذا القول أكثر أهل العلم في معنى السبعة الأحرف‏.‏

وأما الآثار المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فهي محتملة التأويل وقد ذكرناها في التمهيد مسندة منها حديث أبي بن كعب وحديث بن مسعود وحديث أبي الجهيم وحديث أبي بكرة وحديث أبي هريرة وحديث علي بن أبي طالب ‏(‏رضوان الله عليهم‏)‏ وأكثرها طرقا وتواترا حديث أبي بن كعب ولحديث بن مسعود وأبي هريرة طرق أيضا كثيرة كلها محتملة للتأويل قد نزع بها جماعة من العلماء وليس فيها شيء يرفع الإشكال ومن أراد الوقوف عليها نظر في التمهيد إليها ذكر أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن عقيل ويونس عن بن شهاب في الأحرف السبعة قال هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه وذكر عبد الرزاق عن معمر قال قال الزهري إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام وروى الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود قال إني سمعت القرأة فرأيتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف فإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال وروى ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ ‏(‏للذين ءامنوا انظرونا‏)‏ ‏[‏الحديد 13‏]‏‏.‏

‏(‏للذين آمنوا أمهلونا للذين آمنوا أخرونا للذين آمنوا ارقبونا‏)‏ وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ ‏(‏كلما أضاء لهم مشوا فيه‏)‏ ‏[‏البقرة 20‏]‏‏.‏

‏(‏ مروا فيه سعوا فيه‏)‏ كل هذه الحروف كان يقرؤها أبي بن كعب فهذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث ومصحف عثمان ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ الذي بأيدي الناس هو منها حرف واحد ذكر بن أبي داود قال حدثنا أبو الطاهر قال سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءات المدنيين والعراقيين اليوم هل تدخل في الأحرف السبعة فقال لا إنما السبعة الأحرف كقولك أقبل هلم تعالى أي ذلك قلت أجزأك قال أبو الطاهر وقاله بن وهب وبه قال محمد بن جرير الطبري قال أبو جعفر الطحاوي في ذلك كلاما ذكرته عنه في التمهيد مختصرة أن الأحرف السبعة إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك لأن كل ذي لغة كان يشق عليه أن يتحول عن لغته ثم لما كثر الناس والكتاب ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم الأحرف السبعة وعاد ما يقرأ به إلا حرف واحد واحتج بحديث أبي بن كعب وحديث عمر مع هشام بن حكيم وما يشبهها قد ذكرتها وأمثالها في التمهيد وقال بعض المتأخرين من أهل العلم باللغة والقرآن ومعانيه تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة الأولى يعني الأحرف السبعة فوجدتها سبعة أنحاء منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل ‏(‏هن أطهر لكم‏)‏ ‏[‏هود 78‏]‏‏.‏

و‏(‏ أطهر لكم‏)‏ ‏(‏ويضيق صدرى ‏)‏ ‏[‏الشعراء 13‏]‏‏.‏

و‏(‏يضيق‏)‏ ونحو هذا ومنها ما يتغير معناه ويزول الإعراب ولا تتغير صورته مثل قوله ‏(‏ربنا بعد بين أسفارنا‏)‏ ‏[‏سبأ 19‏]‏‏.‏

‏(‏ربنا باعد بين أسفارنا ومنها ما يتغير معناه من الحروف واختلافها ولا تتغير صورته مثل قوله ‏(‏إلى العظام كيف ننشزها‏)‏ و‏(‏ننشرها‏)‏ ‏[‏البقرة 259‏]‏‏.‏

ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه كقولك ‏(‏كالعهن المنفوش‏)‏ و‏(‏كالصوف‏)‏ ‏[‏القارعة 5‏]‏‏.‏

ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل قوله ‏(‏وطلع منضود‏)‏ و‏(‏طلح منضود‏)‏ ‏[‏الواقعة 29‏]‏‏.‏

ومنها بالتقديم والتأخير مثل ‏(‏وجاءت سكرة الموت بالحق‏)‏ ‏[‏ق 19‏]‏‏.‏

و‏(‏جاءت سكرة الحق بالموت‏)‏ ومنها بالزيادة والنقصان مثل ‏(‏تسع وتسعون نعجة‏)‏ ‏[‏ص 23‏]‏‏.‏

و‏(‏تسع وتسعون نعجة‏)‏ أنثى قال أبو عمر قد ذكرت في التمهيد أمثلة كثيرة لما ذكر هذا القائل في كل وجه من الوجوه السبعة وذكرت من قرأ بذلك كله من السلف بمثل قوله في الزيادة ‏(‏نعجة أنثى ‏)‏ قوله ‏(‏وأما الغلم فكان أبواه مؤمنين‏)‏ ‏[‏الكهف 80‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏فإن الله من بعد إكرههن غفور رحيم‏)‏ ‏[‏النور 33‏]‏‏.‏

وهو كثير والذي أقول به إن جمع عثمان ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ في جماعة الصحابة ‏(‏رضوان الله عليهم‏)‏ القرآن على حرف واحد بكتابة زيد بن ثابت إنما حملهم على ذلك ما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام حين اجتمعوا في بعض المغازي فخطأت كل طائفة منهم الأخرى فيما خالفتها فيه من قراءتها وصوبت ما تعلم من ذلك وكان أهل العراق قد أخذوا عن بن مسعود وأهل الشام قد أخذوا عن غيره من الصحابة فخاف الصحابة ‏(‏رحمهم الله‏)‏ من ذلك الاختلاف لما كان عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الاختلاف في القرآن وأن المراء فيه كفر وقد كانت عامة أهل العراق وعامة أهل الشام هموا بأن يكفر بعضهم بعضا تصويبا لما عنده وإنكارا لما عند غيره فاتفق رأي الصحابة وعثمان ‏(‏رضوان الله عليهم‏)‏ على أن يجمع لهم القرآن على حرف واحد من تلك السبعة الأحرف إذ صح عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كلها شاف كاف فاكتفوا ‏(‏رحمهم الله‏)‏ بحرف واحد منها فأمر عثمان زيد بن ثابت ذلك فأملاه على من كتبه ممن أمره عثمان بذلك على ما هو مذكور في غير موضع وأخبار جمع عثمان المصحف كثيرة وقد ذكرنا في التمهيد منها طرفا‏.‏

وأما جمع أبي بكر للقرآن فهو أول من جمع ما بين اللوحين وجمع علي بن أبي طالب للقرآن أيضا عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر فإنما كل ذلك على حسب الحروف السبعة لا كجمع عثمان على حرف واحد حرف زيد بن ثابت وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم وفي التمهيد بيان ما وصفنا عن أبي بكر وعن علي ‏(‏رضي الله عنهما‏)‏ بالآثار الواردة بذلك حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بمصر قال حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد المشقاصي الفريابي القاضي قال حدثنا أبو جعفر النفيلي قال قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة بينا أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها بخلاف قراءتي فقلت من أقرأك هذه السورة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لا تفارقني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه فقلت يا رسول الله إن هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني فقال اقرأ يا أبي فقرأت فقال أحسنت وقال للآخر اقرأ فقرأ بخلاف قراءتي فقال له أحسنت ثم قال يا أبي إنه أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف قال فما اختلج في صدري شيء من القرآن روى قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب قال قرأ أبي آية وقرأ بن مسعود خلافها وقرأ رجل آخر خلافهما فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلكم محسن مجمل إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف وذكر تمام الخبر وذكر بن وهب في كتاب الترغيب من جامعه قال قيل لمالك أترى أن نقرأ بمثل ما قرأ به عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله بدلا من قوله ‏(‏فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

فقال ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤ منها ما تيسر‏.‏

وقال مالك لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا قال وقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف قال بن وهب وسألت مالكا عن مصحف عثمان فقال ذهب قال أبو عمر قراءة عمر فامضوا إلى ذكر الله ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

هي قراءة بن مسعود وهذه الرواية عن مالك خلاف رواية بن القاسم وخلاف ما عليه جماعة الفقهاء أنه لا يقرأ في الصلاة بغير ما في مصحف عثمان بأيدي الناس فلذلك قال مالك الذي في رواية أصحابه عنه غير بن وهب أنه لا يقرأ بحرف بن مسعود لأنه خلاف ما في مصحف عثمان روى عيسى عن بن القاسم في المصحف بقراءة بن مسعود قال أرى أن يمنع الناس من بيعه ويضرب من قرأ به ويمنع من ذلك قال أبو عمر الذي عليه جماعة الأمصار من أهل الأثر والرأي أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ في صلاته نافلة كانت أو مكتوبة بغير ما في المصحف المجتمع عليه سواء كانت القراءة مخالفة له منسوبة لابن مسعود أو إلى أبي أو إلى بن عباس أو إلى أبي بكر أو عمر أو مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجائز عند جميعهم القراءة بذلك كله في غير الصلاة وروايته والاستشهاد به على معنى القرآن ويجري عندهم مجرى خبر الواحد في السنن لا يقطع على عينه ولا يشهد به على الله تعالى كما يقطع على المصحف الذي عند جماعة الناس من المسلمين عامتهم وخاصتهم مصحف عثمان وهو المصحف الذي يقطع به ويشهد على الله عز وجل وبالله التوفيق قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد ما في سورة الفرقان من اختلاف القراءات عن السلف والخلف لأن حديث مالك ورد بذكر سورة الفرقان خاصة فذكرنا ما فيها من اختلاف حروفها مستوعبا بذلك والحمد لله وفي هذا الحديث ما يدل على أن في جبلة الإنسان وطبعه وإن كان فاضلا أن ينكر ما يعرف خلافه وإن جهل ما أنكر من ذلك لأن الذي بيده من ذلك علم يقين فلا يزول عنه إلى غير إلا بمثله من العلم واليقين وكذلك لا يسوغ خلافه إلا بمثل ذلك وفيه بيان ما كان عليه عمر ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ من أنه لا يراعي في ذات الله قريبا ولا بعيد ولا عدوا ولا صديقا وقد كان شديد التفضيل لهشام بن حكيم بن حزام ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ ولكنه إذ سمع منه ما أنكره لم يسامحه حتى عرف موضع الصواب فيه وكان لا يخاف في الله لومة لائم ذكر وهب عن مالك قال كان عمر إذا خشي وقوع أمر قال أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا وفيه بيان استعمالهم لمعنى الآية العامة لهم ولمن بعدهم وهي قوله عز وجل ‏(‏فإن تنزعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏)‏ ‏[‏النساء 59‏]‏‏.‏

يعني إن كان حيا فإن مات فإلى سنته كذا قال أهل العلم بالتأويل والله الموفق للصواب وبعد هذا في هذا الباب من الموطأ حديث 444 مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت في هذا الحديث الحض على درس القرآن وتعاهده والمواظبة على تلاوته والتحذير من نسيانه بعد حفظه وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن عبادة أنه قال من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم قال أبو عمر ومن حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي أجور أمتي حتى يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذئبا أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها وحديث بن مسعود أنه كان يقول تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي وقد ذكرت هذه الأحاديث وغيرها في التمهيد بأسانيدها وفي حديث بن مسعود هذا كراهة قول الرجل نسيت وإباحة قوله أنسيت قال الله عز وجل ‏(‏وما أنسنيه إلا الشيطن‏)‏ الكهف 63‏.‏

وأما حديث الموطأ إني لأنسى أو أنسى فإنما هو شك من المحدث في أي اللفظتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه حديث لا يوجد في غير الموطأ مقطوعا ولا غير مقطوع وقد كان بن عيينة يذهب في أن النسيان الذي يستحق عليه صاحبه اللوم ويضاف إليه فيه الإثم هو الترك للعمل به ومعلوم أن النسيان في كلام العرب الترك قال الله عز وجل ‏(‏فلما نسوا ما ذكروا به‏)‏ ‏[‏الأنعام 44‏]‏‏.‏

أي تركوا وقال ‏(‏نسوا الله فنسيهم‏)‏ ‏[‏التوبة 67‏]‏‏.‏

أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم ونحو ذلك حدثني سعيد بن نصر وإبراهيم بن شاكر قالا حدثنا عبد الله بن عثمان قال حدثنا سعد بن معاذ قال حدثنا بن أبي مريم قال حدثنا نعيم بن حماد قال سمعت سفيان بن عيينة يقول في معنى ما جاء من الأحاديث في نسيان القرآن قال هو ترك العمل بما فيه قال الله تعالى ‏(‏اليوم ننسكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا‏)‏ ‏[‏الجاثية 34‏]‏‏.‏

وليس من اشتهى حفظه وتفلت منه بناس له إذا كان يحلل حلاله ويحرم حرامه قال ولو كان كذلك ما نسي النبي صلى الله عليه وسلم شيئا منه قال الله عز وجل ‏(‏ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله‏)‏ ‏[‏الأعلى 6‏]‏‏.‏

7 وقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أشياء وقال ذكرني هذا آية أنسيتها قال سفيان ولو كان كما يقول هؤلاء الجهال ما أنسى الله نبيه منه شيئا‏.‏

445- وأما حديثه بعد هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا في هذا الحديث ما يبين به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأله أصحابه عن معاني دينهم وغير دينهم وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجيبهم يصبر لهم ويعلمهم وكانت طائفة منهم تسأل وطائفة تحفظ وكلهم أدى وبلغ ما علم ولم يكتم حتى أكمل الله دينه والحمد لله وكتاب الله أصح شاهد في ذلك يقول الله عز وجل ‏(‏يسئلونك عن الخمر والميسر‏)‏ ‏[‏البقرة 219‏]‏‏.‏

و‏(‏ويسئلونك عن اليتمى ‏)‏ ‏[‏البقرة 220‏]‏‏.‏

و‏(‏يسئلونك ماذا ينفقون‏)‏ ‏[‏البقرة 215‏]‏‏.‏

وهو كثير في القرآن وفي هذا الحديث نوعان أو ثلاثة من أنواع نزول الوحي وقد ورد في غير ما حديث من نزول الوحي أنواع حتى الرؤيا الصالحة جعلها صلى الله عليه وسلم جزءا من أجزاء النبوة ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يتلى والله أعلم وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوتا كإمرار السلسلة على الصفا وفي حديث يوم حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست وقالت عائشة كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح وقد كان صلى الله عليه وسلم يبدى له جبريل بين السماء والأرض وذلك بين في حديث جابر بن عبد الله وأحيانا يأتيه جبريل في هيئة إنسان فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه وذلك بين في حديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الإيمان والإسلام وحديثه حين جاءه جبريل في صفة دحية الكلبي وفي حديث عمر بن الخطاب ويعلى بن أمية إذا نزل عليه الوحي يحمر وجهه ويغط غطيط البكر وينفخ إلى ضروب كثيرة لست أحصيها وقد ذكرنا في ذلك آثارا كثيرة متفرقة في التمهيد وروى بن وهب عن يونس بن يزيد عن بن شهاب أنه سئل عن هذه الآية ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورائ حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه على حكيم‏)‏ الشورة 51 قال ترى هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر كلهم والكلام كلام الله الذي كلم به موسى ‏(‏عليه السلام‏)‏ من وراء حجاب والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه فيثبت الله ما أراد من الوحي في قلب النبي فيتكلم به النبي فيكتبه فهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله ورسله لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدا من الناس ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتمونه أحدا ولا يؤمرون بكتمانه ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينون لهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه ومن الوحي ما يرسل الله من يشاء من ملائكته فيوحيه وحيا في قلوب من يشاء من أنبيائه ورسله وقد بين في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد ‏(‏عليهما السلام‏)‏ فقال في كتابه ‏(‏ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك‏)‏ البقرة وقال عز وجل ‏(‏ وإنه لتنزيل رب العلمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏)‏ ‏[‏الشعراء 192‏]‏‏.‏

195 وروي عن مجاهد في قوله عز وجل ‏(‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا‏)‏ قال أن ينفث في نفسه ‏(‏أو من ورائ حجاب‏)‏ قال موسى حين كلمة الله ‏(‏أو يرسل رسولا‏)‏ قال جبريل إلى محمد وأشباهه من الرسل ‏(‏صلوات الله عليهم أجمعين‏)‏ ‏[‏الشورى 51‏]‏‏.‏

أما قوله في هذا الحديث صلصلة الجرس فإنه أراد في مثل صوت الجرس والصلصلة الصوت يقال صلصلة الطست وصلصلة الجرس وصلصلة الفخار‏.‏

وأما قوله فيفصم عني فمعناه ينفرج عني ويذهب عني ويقال فصم بمعنى ذهب وقيل فصم كما يفصم الخلخال إذا فتحته يتخرجه من الرجل وكل عقدة حللتها فقد فصمتها قال الله عز وجل ‏(‏فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها‏)‏ ‏[‏البقرة 256‏]‏‏.‏

وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها وأصل الفصم عند العرب أن تفك الخلخال ولا تبين كسرة فإذا كسرته فقد قصمته ‏(‏بالقاف‏)‏ قال ذو الرمة‏:‏

كأنه دملج من فضة نبة *** في ملعب من جواري الحي مفصوم

446- وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال أنزلت ‏(‏عبس وتولى ‏)‏ في عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول يا محمد استدنيني وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول يا فلان هل ترى بما أقول بأسا فيقول لا والدماء ما أرى بما تقول بأسا فأنزلت ‏(‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏)‏ فقد ذكرنا من أسنده في غير الموطأ ذكرنا بن أم مكتوم والاختلاف في اسمه في كتاب الصحابة ورفعنا هناك في نسبه وذكرنا عيونا من خبره وهو قرشي عامري من بني عامر بن لؤي ورواه بن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه بمثل حديث مالك سواء ففي هذا الحديث دليل على أن علم السيرة وما ارتبط بها من علم نزول القرآن متى نزل وفيمن نزل والمكي منه والمدني وما أشبه ذلك من جنس التاريخ في مثل ذلك علم حسن ينبغي الوقوف عليه والعناية به والميل بالهمة إليه وفيه أيضا ما كان عليه بن أم مكتوم من الحرص على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسماع منه والأخذ عنه‏.‏

وأما الرجل الذي قيل فيه من عظماء المشركين فقيل هو أبي بن خلف الجمحي وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال جاء بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم يومئذ أبي بن خلف فأعرض عنه فنزلت ‏(‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏)‏ ‏[‏عبس 1‏]‏‏.‏

2 فكان بعد ذلك يكرمه وقد ذكرت في التمهيد حديثا مسندا عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها رجل مكفوف تقطع له الأترج وتطعمه إياها بالعسل فقلت من هذا يا أم المؤمنين فقالت هذا بن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أتى النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ وعنده عتبة وشيبة فأقبل عليهما فنزلت ‏(‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏)‏ وقالت عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي شيئا لكتم هذا وذكر حجاج عن ‏(‏بن‏)‏ جريج قال قال بن عباس جاءه بن أم مكتوم وعنده رجال من قريش فقال له علمني ما علمك الله فأعرض عنه وعبس في وجهه وأقبل على القوم يدعوهم إلى الإسلام فنزلت ‏(‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏)‏ ‏[‏عبس 1‏]‏‏.‏

2 فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه بعد ذلك مقبلا بسط رداءه حتى يجلسه عليه وكان إذا خرج من المدينة استخلفه يصلي بالناس حتى يرجع وقد زدنا هذا الباب بيانا في التمهيد‏.‏

وأما قوله في حديث مالك هذا لا والدماء فإن الرواية اختلفت عن مالك في ذلك فمنهم من يرويه عنه والدماء بكسر الدال ومنهم من يرويه بضمها فمن ضمها أراد الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون واحدتها دمية ومن رواها بكسر الدال أراد دماء الهدايا التي كانوا يذبحون لآلهتهم قال الشاعر وهو توبة بن الحمير‏:‏

علي دماء البدن إن كان بعلها *** يرى لي ذنبا غير أني أزوره

وقال آخر‏:‏

أما ودماء المزجيات إلى منى *** لقد كفرت أسماء غير كفور

447- وأما حديثه في هذا الباب عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر ثكلتك أمك عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ ‏(‏إنا فتحنا لك فتحا مبينا‏)‏ ‏[‏الفتح 1‏]‏‏.‏

قد ذكرنا في التمهيد من قال فيه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر فأسنده وفيه من وجوه العلم إباحة المشي على الدواب بالليل وهذا محمول عند أهل العلم على من لا يمشي بها نهارا أو من يمشي بها نهارا بعض المشي ويستعمل في ذلك الرفق عند حاجته إلى المشي بالليل لأنها عجم لا تخبر عن حالها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإحسان إليها وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يريد الجواب فيه إن سكت ولا يجيب ب نعم ولا ب لا ورب كلام جوابه السكوت وفيه من الأدب أن سكوت العالم عن الجواب يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه وفيه الندم على إيذاء العالم والإلحاح عليه خوف غضبه وحرمان فائدته في المستقبل وقل ما أغضب أحد عالما إلا حرم الفائدة منه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما وقالوا كان أبو سلمة يماري بن عباس فحرم بذلك علما كثيرا وفيه ما كان عليه عمر ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ من التقوى وخوف الله تعالى لأنه خشي أن يكون عاصيا لسؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه والمعلوم أن سكوت العالم عن الجواب مع علمه به دليل على كراهة ذلك السؤال وفيه ما يدل على أن السكوت عن السائل يعز عليه وهذا موجود في طبائع الناس ولهذا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر يؤنسه وفي ذلك ما يدل على منزلة عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعه من قلبه وفيه أن غفران الذنوب خير للمؤمنين مما طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك وذلك تحقير منه صلى الله عليه وسلم بالدنيا وتعظيم للآخرة وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله ويعظم ما عظم الله وإذا كان غفران الذنوب كما وصف فمعلوم أنه ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ لم يكفر عنه إلا الصغائر لأنه لا يأتي كبيرة أبدا لا هو ولا أحد من الأنبياء لأنهم معصومون من الكبائر صلوات الله عليهم والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح هو منصرفة من خيبر وقيل من الحديبية واختلفوا في قوله ‏(‏فتحا مبينا‏)‏ ‏[‏الفتح 1‏]‏‏.‏

فقال قوم خيبر وقال آخرون الحديبية منحره ومحلقه وقد ذكرنا أقوالهم في تفسير الآية في التمهيد‏.‏

وأما قوله في الحديث نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بن وهب معناه أكرهت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة أي أتيته بما يكره وقال بن حبيب ألححت وكررت السؤال وأبرمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بن قتيبة نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ألححت عليه قال ومنه قولهم أعطى عطاء غير منزور أي بغير إلحاح وأنشد‏:‏

فخذ عفو ما آتاك لا تنزرنه *** فعند بلوغ الكدر رنق المشارب

وقد ذكر حبيب عن مالك قال نزرت راجعت وقال الأخفش نزرت البئر إذا أكثرت الإسقاء منها حتى يقل ماؤها يقال بئر نزور أي قليلة الماء وكذلك دمع نزور ومعناه أنه سأله حتى قطع عليه كلامه فتبرم به وفي إدخال مالك ‏(‏رحمه الله‏)‏ هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن دليل على أنه أراد التعريف بأن القرآن كان ينزل على النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ على قدر الحاجة وما يعرض له مع أصحابه وقد أخبر الله تعالى أنه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة وقد أوضحنا هذا المعنى في ما مضى‏.‏

448- وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئا وتنظر في القدح فلا ترى شيئا وتنظر في الريش فلا ترى شيئا وتتمارى في الفوق الحديث على ما في الموطأ وهو حديث مسند صحيح يروى من وجوه كثار صحاح ثابتة بمعان متقاربة وإن اختلف بعض ألفاظها وقد ذكرت كثيرا منها في التمهيد فأول ما في حديث مالك هذا من المعاني أن الخوارج على الصحابة ‏(‏رضي الله عنهم‏)‏ إنما قيل لهم خوارج لقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يخرج فيكم ومعنى قوله فيكم أي عليكم كما قال تعالى ‏(‏في جذوع النخل‏)‏ ‏[‏طه 71‏]‏‏.‏

أي عليكم كما قال تعالى ‏(‏جذوع النخل‏)‏ وكان خروجهم ومروقهم في زمن الصحابة فسموا الخوارج وسموا المارقة بقوله في هذا الحديث يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وبقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ تقتتل طائفتان من أمتي تمرق منهما مارقة تقتلها أولى الطائفتين بالحق فهذا أصل ما سميت به الخوارج والمارقة ثم استمر خروجهم على السلاطين فأكدوا الاسم ثم افترقوا فرقا لها أسماء منهم الإباضية أتباع عبد الله بن إباض والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق والصفرية أتباع النعمان زياد بن الأصفر وأتباع نجدة الحروري يقال لهم النجدات ولم يقل فيهم النجدية وما أظن ذلك والله أعلم إلا ليفرق بين ما انتسب إلى بلاد نجد وبينهم وفرق سواها يطول ذكرها وليس هذا موضعه وهم يتسمون بالشراة ولا يسميهم بذلك غيرهم بل أسماؤهم التي ذكرناها عنهم مشهورة في الأخبار والأشعار قال عبد الله بن قيس الرقيات‏:‏

ألا طرقت من آل بثنة طارقة *** على أنها معشوقة الدل عاشقة

تبيت وأرض السوس بيني وبينها *** وسولاف رستاق خمته الأزارقة

إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة *** حرورية أضحت من الدين مارقه

والحرورية منسوبة إلى حروراء خرج فيه أولهم على علي رضي الله عنه فقاتلهم بالنهروان وأظهره الله عليهم فقتل منهم ألوفا وهم قوم استحلوا بما تأولوا من كتاب الله ‏(‏عز وجل‏)‏ دماء المسلمين وكفروهم بالذنوب وحملوا عليهم السيف وخالفوا جماعتهم فأوجبوا الصلاة على الحائض ولم يروا على الزاني المحصن الرجم ولم يوجبوا عليه إلا الحد مائة ولم يطهرهم عند أنفسهم إلا الماء الجاري أو الكثير المستبحر إلى أشياء يطول ذكرها قد أتينا على ذكر أكثرها في غير هذا الموضع فمرقوا من الدين بما أحدثوا فيه مروق السهم من الرمية كما قال وقد ذكرنا في التمهيد الحكم فيهم عند العلماء روى بن وهب وغيره عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال ذكرت الخوارج واجتهادهم يعني في الصلاة والصيام وتلاوة القرآن عند بن عباس فقال ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم هم يضلون‏.‏

وأما قوله يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم فمعناه أنهم لم ينتفعوا بقراءته إذ تأولوه على غير سبيل السنة المبينة له وإنما حملهم على جهل السنة ومعاداتها وتكفيرهم السلف ومن سلك سبيلهم وردهم لشهاداتهم ورواياتهم تأولوا القرآن بآرائهم فضلوا وأضلوا فلم ينتفعوا به ولا حصلوا من تلاوته إلا على ما يحصل عليه الماضغ الذي يبلع ولا يجاوز ما في فيه من الطعام حنجرته‏.‏

وأما قوله يمرقون من الدين فالمروق الخروج السريع كما يخرج السهم من الرمية والرمية الطريدة من الصيد المرمية مثل المقتولة والقتيلة قال الشاعر‏:‏

النفس موقوفة والموت غايتها *** نصب الرمية للأحداث ترميه

وقال أبو عبيد كما يخرج السهم من الرمية قال يقول خرج السهم ولم يتميز بشيء كما خرج هؤلاء من الإسلام ولم يتمسكوا منه بشيء وقال غيره قوله في الحديث ويتمارى في الفرق في الفرق دليل على الشك في خروجهم جملة على الإسلام لأن التماري الشك فإذا وقع الشك في خروجهم لم يقطع عليهم بالخروج الكلي من الإسلام واحتج من ذهب هذا المذهب بلفظة رويت في بعض الأحاديث الواردة فيهم وفي قوله صلى الله عليه وسلم يخرج فيكم قوم من أمتي فلو صحت هذه اللفظة كانت شهادة منه ‏(‏عليه السلام‏)‏ أنهم من أمته حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا مجالد قال حدثنا أبو الوداك واسمه جبر بن نوف قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج قوم من أمتي عند فرقة أو قال عند اختلاف من الناس يقرؤون القرآن كأحسن ما يقرأه الناس ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يرمي الرجل الصيد فينفذ الفرث والدم فيأخذ السهم فيتمارى أصابه شيء أم لا هم شر الخلق والخليقة تقتلهم أولى الطائفتين بالله أو أقرب الطائفتين إلى الله قال بعض العلماء في هذا الحديث معنى قوله يخرج قوم من أمتي أي في دعواهم قال أبو عمر أكثر طرق الأحاديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إنما فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تلتقي من أمتي فئتان أو تقتتل من أمتي فئتان فبينا هم كذلك إذ مرقت مارقة بينهما يقتلها أولى الطائفتين بالحق وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد قال الأخفش شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مروقهم من الدين برمية الرامي الشديد الساعد الذي رمى الرمية فأنفذها سهمة وقع في جانب منها وخرج من الجانب الآخر لشدة رميته فلم يتعلق بالسهم دم ولا فرث وكأن الرامي أخذ السهم فنظر في نصله وهو الحديدة التي في السهم فلم ير شيئا من دم ولا فرث ثم نظر في القدح والقدح عود السهم فلم ير شيئا ونظر في الريش فلم ير شيئا وقوله يتمارى في الفوق أي يشك إن كان أصاب الدم الفوق أم لا والفوق هو الشيء الذي يدخل فيه الوتر قال يقول فكما يخرج السهم نقيا من الدم لم يتعلق به منه شيء فكذلك يخرج هؤلاء من الدين يعني الخوارج ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قيل قل لابن عمر إن نجدة الحروري يقول إنك كافر وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك كافر فقال بن عمر والله ما كفرت منذ أسلمت قال نافع وكان بن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله قال عبد الرزاق‏.‏

وأخبرنا معمر عن بن طاوس عن أبيه أنه كان يحرض على قتال الحرورية وذكر بن وهب عن عمر بن الحارث عن بكير بن الأشج أنه سأل نافعا كيف كان رأي بن عمر في الخوارج فقال كان يقول هم شرار الخلق انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين وقد ذكرنا في التمهيد رواية جماعة عن علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ أنه سئل عن أهل النهروان أكفارهم قال من الكفر فروا قيل فهم منافقون فقال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم ضل سعيهم وعموا عن الحق وهم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم وذكر نعيم بن حماد عن وكيع عن مسعر عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ قال لم نقاتل أهل النهروان على الشرك وعن وكيع عن أبي خالد عن حكيم بن جابر عن علي مثله وقد ذكرنا أقاويل الفقهاء في قتال الخوارج وأهل البغي والحكم فيهم بعد ذكر سيرة علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ فيهم وفي غيرهم ممن قاتله في حين قتاله لهم مبسوطة في التمهيد والحمد لله وفي هذا الحديث نص على أن القرآن قد يقرؤه من لا دين له ولا خير فيه ولا يجاوز لسانه وقد مضى هذا المعنى عند قول بن مسعود وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده وذكرنا هناك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر منافقي أمتي قراؤها وحسبك بما ترى من تضييع حدود القرآن وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمصار وغيرها مع فسق أهلها والله أسأله العصمة والتوفيق والرحمة فذلك منه لا شريك له‏.‏

449- وأما حديث مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها فهو من قول بن مسعود رضي الله عنه إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه إنه كان يتعلمها بأحكامها ومعانيها وأخبارها فكذلك طال مكثه فيها ومعلوم أن من الناس من يتعذر عليه حفظ القرآن ويفتح له في غيره وكان بن عمر فاضلا وقد حفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة منهم عثمان وعلي وأبي بن كعب وبن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم‏.‏